ساعة القلعة

مرحبا القراء بالعربية،
لقد درست اللغة العربية (الْفُصْحَى) في السنوات الأخيرة لقراءة الجزري بلغته ، لكن معرفتي اللغة لدي جزئي للغاية. سأكون ممتنًا لأي تعليقات أو تصحيحات، يمكنك ترك تعليق أدناه أو الكتابة إلي على avigo31@gmail.com

مُقَدّمَة

افتتح الجزري كتابه «كتاب في معرفة الحيل الهندسية» بساعة ضخمة، والتي قد تكون الساعة الأكثر تعقيدًأ من بين السّاعات المائية والشمعيّة العشر المُوَضّحة في الكتاب، ألا وهي “ساعةُ القلعة”.

في بعض الأحيان، تعرف أنّ بين يديك كتاب رائع بمجرد أن تقع عيناك على أول فقرة فيه:

“أدعوني إسماعيل. قبل بضعة أعوام احتجت إلى العمل – لم يكن لدي آنذاك خطط لحياتي او سكن فعلي، لذا قررت أن أبحر وارى العالم، وقد فعلت هذا من قبل; عملت على متن السفن كلما شعرت بالاكتئاب وإلا صرت عصبي المزاج، حتى إنني قد اجد نفسي اسير في الشوارع أطيح بالقبعات عن رءوس المارة”.  (موبي ديك لهيرمان ميلفيل، ترجمة كوثر محمود محمد)

إذا ما كانت بين يدي قارئ مناسب، يمكن أن تجعلك بداية الرّواية تشعر كما لو أنك قد اختُطِفْتَ من الواقع وانجَرَفتَ في نهر سينقلك إلى عوالم أخرى.

لم يكن المهندسون وحدهم، ممن قرؤوا كتاب الجزري، مَن أذهلهم سحر الآلات التي صممها منذ أكثر من ثمانمائة عام. لن نعرف أبدًا ما إذا كان الجزري قد اختار هذه الافتتاحية القوية لإثبات قدرته في أبهى صورها، أو أنه اختار عمداً تعقيد الساعة لإبعاد الناس العاديين عن حرفته الراقية، أو ما إذا كان قد ذكر الآلات بترتيب عشوائي غير مقصود.

تميزت ساعة القلعة بحركة معقدة على مدار اليوم، وهي في منزلة بين الساعة والآلة ذاتية التشغيل (دمية ميكانيكية). كان لاستخدام العديد من الآلات ذاتية التشغيل غايات مسرحية؛ في بعض الأحيان كان هذا هو الغرض منها، مثل المدد الغيبي (Deus Ex Machina) على خشبة المسرح اليوناني القديم، وفي أحيان أخرى كان لها غايات أخرى، مثل الأسد الآلي الذي بناه ليوناردو دا فينشي لفرانسوا الأول ملك فرنسا، والّذي عندما دق على الأسد بسيفه انشقَّ صدر الأسد وبرزت منه زنابق ترمز إلى المَلَكِيّة الفرنسيّة. ساعة الجزري كذلك مسرحيّة للغاية، في بداية اليوم تكون جميع النّوافذ الأربع والعشرون، الموزعة على صفين، مُغلقة، ويكون الهلال الذهبي، الذي تْصعُب رؤيته في الصورة، في الجهة اليسرى.

صورة 1 – صفحة من نسخة متفرقة من كتاب الجزري يعود تاريخها إلى العام 1315

خلال النهار، يتحرك الهلال يمينًا، وعلى رأس كل ساعة تحدث ثلاثة أمور:

‌          أ. تُفتح الأبواب العُلْوِيّة ويظهر شكل إنسان.

ب. يدور الباب السُفْلِيّ حول محوره، وتظهر عبارة “لِلّه المُلْك”.

ج. ينحني الصقران ذوا الجناحين المفرودين نحو الأمام ويلقي كل منهما كرة من البرونز في إناء يحوي صنجًا نحاسيًا معلّقًا، مما ينجم عنه صوتُ رنين مرتفع يمكن سماعه من مسافات بعيدة.

أما صورة الصقرين، فكأنها استُمدت من حلم أو أسطورة قديمة. في الأساطير المصرية يُدعى إله الحرب باسم حورس، ومعناه الصّقر. خلال معركته ضد سِت (إله قديم آخر)، فَقَدَ حورس عينه فَأعدّ له الإله تحوت عينًا جديدة صَنَعَها من ضوء القمر وتُسَمّى “عين القمر” أو “العين الماسيّة” وترمز إلى الرؤية اللّانهائية. لا يوجد بين يديّ ما يدعوني لافتراض أن الجزري كان يعرف الأساطير المصرية، ولكن من يدري؟

فوق صف النوافذ العلوية تظهر دائرة البُرُوج وقد رُسِمَ عليها الشمس والقمر أيضًا. تكون الشمس أول النهار جهة الأفق الشرقي على وشك أن تشرق، ثم ترتفع تدريجيًا حتى وقت الظهيرة قبل أن تعاود الانخفاض حتى حلول الليل، ومع هذه الحركة تختفي الأبراج الستة التي كانت مرئية، وتظهر الستة الأخرى التي كانت غير مرئية للناظر. بحلول الظهيرة، يبدأ الموسيقيون الميكانيكيون عند قاعدة الساعة بالعزف على آلاتهم، فيقرَعُ الطبّالون طبولهم، وينفخ عازفوا البوق في أبواقهم، ويعزف الصنّاج على الصنج النحاسي مدة من الوقت.

لم يكتب الجزري شيئًا عن سبب كثرة الآليات المستخدمة لِعرض مرور الوقت. في الواقع، يعمل الهلال وكأنّهُ عقرب تناظُريّ في ساعة حديثة، وأما البقيّة فهي مجرّد “زينة”، أو صندوق رنين لا أكثر. في عالم الهندسة الحديثة، يمكن اعتبار هذا مبالغةً أو تبذيرًا حتى، إلا أن هنالك سحرٌ يمر عبر كلّ القرون التي مضَت في صورة الصُّقور الّتي تُلْقي كرة معدنية في الأباريق الرّنّانة، حتى وإِن لم يكُن في ذلك أيّ معلومات إضافية.

آليات الساعة

عندما أراد إريك كيستنر دمج الأفكار في حَبْكَة «دوت وأنطون» (“Dot and Anton”)، كان قلقًا بشأن الأطفال الذين «يفضلون تناول العصيدة لثلاثة أيام على التعامل مع مثل هذه القضايا المعقدة التي تعبر عنها خواطره» ولذلك قرر كتابة خواطره بخط مختلف. لذلك، إذا رأيت شيئًا مطبوعًا بخط مختلف… يمكنك تخطيه وكأنه غير موجود… ويبدو لي أن هذا مطلوب أكثر عندما يتعلق الأمر بالتفسيرات الميكانيكية للمهندسين التي ستظهر باللون الأزرق.

ساعة القلعة هي نسخة متطورة من الساعة المائية الكلاسيكية، أو “البنكام”، إذ تتكون هذه الساعة من وعاء به علامات وله فتحة صغيرة في الأسفل. يقطر الماء من خلال الفتحة ليملأ الوعاء، ويشير الوقت الذي ينزل فيه الماء في علامة كاملة إلى مرور وحدة زمنية. تكمن الصعوبة في أن معدل التدفق إلى الخارج غير منتظم ويعتمد على ضغط (ارتفاع) الماء في الحاوية. للتغلب على المشكلة، استخدم الجزري صمامًا مخروطيًا (الصورة 2) وغرفة عائمة.

صورة ٢ – صمامًا مخروطيًا

في كل مرة يتم فيها ملء حجرة الطفو، يرتفع المخروط، فيغلق مخرج المياه ويعزل الحجرة. وبهذه الطريقة يتم تفريغ الماء في الحجرة ببطء ولكن بمعدل ثابت لأنها تمتلئ بالماء طوال الوقت ولا تعتمد على مستوى الماء في الخزان المركزي.

صورة ٣ – رسم آلية الساعة، مخطوطة توبكابي، 1206م.

عند شروق الشمس، يتأكد أحد الخدم من أن جميع الأبواب مغلقة وأن عربة الوقت موجودة على الجانب الأيمن (من خلال النظر خلف الساعة). خلال النهار، سيتدفق الماء بمعدل يحدده منظم التدفق، وستنزل ​​العوامة الرئيسية مع مستوى الماء في الخزان الرئيسي. العوامة الرئيسية مصنوعة من النحاس، وهي ثقيلة جدًا. عندما تنزل، تسحب معها الحبل، والذي، من خلال البكرة، سيدير القرص الرئيسي ويسحب عربة الوقت المتصلة بالهلال الذهبي الذي سيتحرك إلى اليسار بسرعة ثابتة تشير إلى الوقت الذي مر من لحظة شروق الشمس. في كل ساعة تتقدم العربة بابًا واحدًا، وستفتح آلية ذكية الأبواب مع إسقاط كرتين برونزيتين. ستتدحرج الكرتان وتصلان إلى فتحة فوق رأس الصقرين. مخالب الصقرين المنحنية ملحومة بأنبوب نحاسي يمكنه الدوران على محوره. يقف الصقر منتصبًا بسبب توازن الوزن، وعندما تسقط الكرة البرونزية يتغير التوازن فينحني الصقر إلى الأمام، وتنفتح أجنحة الصقر المتصلة بجسم على مفصلة، وتسقط الكرة على الصنج المخبأ في الإناء. والآن، وبعد أن أصبح رأس الصقر خفيفًا مرة أخرى، سيعيده وزن التوازن إلى وضعه الأصلي. تحوي الساعة الكثير من الابتكارات و”براءات الاختراع” المماثلة.

صورة ٤ – رسم الصقر والصناج

يحتوي الكتاب على ما يقرب من 50 صفحة تشرح الآليات المختلفة مع تعليمات البناء التفصيلية، ويمكن للقراء المهتمين بالتفاصيل الاطلاع عليها هنا ورؤية المحاكاة هنا.

ما الذي تعلمتُهُ عن الجزري؟

لا تتوفر لدينا أي معلومات عن الجزري سوى ما كُتب في النص نفسه، ولكن يبقى من الممكن إلقاء نظرة على عالمه من خلال قراءة الكتاب. خذ على سبيل المثال جهاز ضبط التدفق القابل للتعديل (أسماه الجزري:”الدستور لخرج الماء”) والمصمم لضمان أن حركة الساعة تتوافق مع طول اليوم المتغير؛ جهاز التحكم هذا يُعد أعجوبة هندسية صغيرة بحد ذاته، لكن سبب اهتمامي به هو النظرة الثلاثية التي يزودنا بها عن الجزري وعالمه:

أولاً، الجزري رجل مطلع على أدبيات عصره، فهو يقول في الأسطر الأولى من فصل ساعة القلعة: “وكنت سلكت مذهب الفاضل أرشميدس في قسمة البروج الأثنى عشر في نصف دائرة “. ربما يشير الجزري هنا إلى “كتاب أرشميدس في عمل البنكامات”؛ وهو كتاب يُنسب إلى أرشميدس إلا أن مصدره غير مبتوت فيه. وهذا يعزز ما قاله الجزري في المقدمة: ” وبعد، فإني تصفحت من كتب [العلماء] المتقدمين وأعمال [العلماء] المتأخرين”. إن مسألة الانفتاح على عوالم المعرفة أو العزلة في عالم الإيمان تشغل بالنا، ملسمين ويهودًا على حد سواء، حتى يومنا هذا.

عاش الحاخام موسى بن ميمون – أحد أبرز علماء التوراة في التاريخ اليهودي، وهو أيضًا عالم وطبيب – في ذات الحقبة الزمنية تقريبًا في قرطبة، ومع أنه كان يعيش بعيدًا عن ديار بكر في الأناضول، إلا أنه كان جزءًا من العالم الإسلامي ذاته. عندما درس الطب، اطلع موسى بن ميمون على كتابات أرسطو في العلوم الطبيعية ولم يشعر بأي تهديد لعقيدته اليهودية. حيث قال في كتابه ” دلالة الحائرين” (مترجم عن العبرية): “من الضروري لأولئك الذين يرغبون في تحقيق الكمال البشري أن يتدربوا أولاً في المنطق ثم في المهن، ثم في العلوم الطبيعية، ثم في الألوهية “. إنه لأمر مدهش أن تقرأ هكذا كلام في وقت يُمنع فيه الأطفال اليهود الأرثوذكس اليوم من دراسة الرياضيات أو العلوم الطبيعية أو غيرها من الدراسات الأساسية. الجزري مهندس أكثر منه فيلسوفًا، فهو لا يتعامل مع أمور العقيدة بشكل مباشر، لكن إيمانه مضمّن في النص، وهذا لم يمنعه إطلاقا من قراءة ما كتبه العلماء الوثنيون والتعلم منهم.

ثانيًا، في ديار بكر شرقي تركيا، هناك ما يزيد قليلاً عن 14 ساعة من ضوء النهار في الصيف و 9 ساعات في الشتاء. بذل الجزري الكثير من الجهود الهندسية للتأكد من مرور 12 ساعة بين شروق الشمس وغروبها في الصيف والشتاء. هذه هي وظيفة وحدة التحكم القابلة للتعديل التي تضبط ساعة شتاء أقصر مقارنة بالساعة الأطول في الصيف.  الوقت ليس وهمًا أو مفهومًا بشريًا، فالأرض دارت حول الشمس قبل أن يكون هناك بشر، وكان هناك شروق وغروب وشتاء وصيف قبل أن نطلق عليهم هذه الأسماء. لكن إدراك الوقت وقياسه هما اختراع بشري. لو التقيتُ الجزري وقلت له أن الثانية، التي ربما عرفها بـ 1/60 من الدقيقة، (رغم أنها كانت غير قابلة للقياس في وقته) هي الوحدة الزمنية العلمية، وتعريفها هو حوالي 9 مليار دورًا من أدوار الإشعاع الناتج من الانتقال بين مستويين من الطاقة للحالة الأساسية لذرة السيزيوم (ولهواة الدقة، الرقم هو: 9,192,631,770)، فلن يقتصر الأمر على عدم فهمه لأي كلمة مما أقول، بل سيظنني شخصًا غير سوي. لم يكن الجزري بحاجة إلى مثل هذه التفاصيل الدقيقة التي لا تتوافق مع تجربته اليومية، أما أنا فأستخدم ويز (Waze)، وهو تطبيق ملاحة، وأحتاج في هذا المستوى إلى ساعة ذرية دقيقة حتى أصل إلى وجهتي في الوقت المحدد. في عالمنا ، يبدو مفهوم تغير الوقت حسب فصول السنة سخيفًا تمامًا، لكن في عالم الجزري، الذي لم يعرف سوى ساعات الشمس والماء، كان أمرًا طبيعيًا تمامًا.

ثالثًا، أجرى الجزري قياسات مستفيضة لجهاز تنظيم المياه المنسوب إلى أرخميدس ووجدها غير مرضية، ثم شرح بالتفصيل كيف حاول حل المشكلة دون نجاح من خلال التجربة والخطأ. من السخف مقارنة مهندس حديث بالجزري، لكن من المثير للاهتمام قراءة تقرير مهندس موهوب للغاية عاش منذ أكثر من 800 عام. وعند قراءة النص يتضح لنا أن شواغله لا تختلف كثيرًا عن شواغل مهندس في زمننا هذا، فلقد أجرى «مراجعة للأدبيات» وحسابات نظرية (في هذه الحالة لم تنجح)، وخطط وأجرى التجارب. كان أيضًا رجلاً ماهرًا يعرف النحاس والبرونز والخشب وكيفية معالجة هذه المواد. وعلى سبيل المثال، عندما يشرح الجزري كيفية تحضير خزان المياه الرئيسي فلم يكن راضيًا عن رسم واختيار المادة (النحاس) فقط، لكنه يشرح كيفية الحصول على أسطوانة مثالية بقرص خشبي دقيق وكيف يمكنك التأكد من أن الأسطوانة لها نفس القطر طوال الوقت. من السهل على القارئ الموجه تقنيًا التعرف على الصعوبات والحلول؛ هناك شيء ساحر في هذا المؤلف، والمهندس، والحرفي، والفنان الذي ينظر إلينا من الصفحات والقرون التي مرت.

השאר תגובה