الآلة ذاتية التشغيل (دمية ميكانيكية) النديم يرتشف بقايا مشروب الملك

مقدمة

كان بلاط الملك المسلم في العصور الوسطى يضم عدد كبير من المثقفين والمنجمين، والشعراء، والمغنين، والحاشية، فضلًا عن الوزراء والموظّفين ذوي المناصب الرفيعة، والذين وقع اختيارهم على أفضل المواهب وأرفعها لتكون رفيقة الحاكم – أو ما يُعرف بالنديم، (باللغة الإنجليزية -boon companion). حاز الرفقاء من هذا النوع على مناصب رفيعة ومزايا خاصة. فيما صنع الجزري الآلة ذاتية التشغيل، وهي عبارة عن تمثال لأحد الندماء مصنوع من النحاس ممسك بكأس في يمناه، وزنبقة مائية بيسراه.

الآلة ذاتية التشغيل النديم، مخطوطة توب قابي ١٢٠٦

كتب الجزري: «ومن عادة ملوك هذا العصر أنهم متى شربوا شراباً في بعض الأواني أبقوا في الاناء بقية يشربها متى جمعت نديم مرتب لذلك». وتحل الآلة ذاتية التشغيل محل النديم الذي يشرب بقية المشروب من الكأس.

لقد قرأت الكثير من المقالات حول مفهوم النديم خلال الأسابيع الأخيرة، والتي ستجد بعضها أدناه، لكنني لم أجد تفسيرًا لماذا يجب على شخص ما أن يشرب بقايا ما يخلفه الملك؟ فقد يبدو منطقيًا أن يضطر البعض إلى تذوق النبيذ قبل الملك منطقي بسبب الخوف من القتلة، فلماذا يتجه البعض إلى شرب بقايا شخص آخر؟ أتقبل كافة التعليقات التي قد تحمل جوابًا شافيًا حول التساؤل بصدر رحب.

وبعد أن يشرب الملك، يأخذ الخادم الكأس، ويصب ما تبقى فيها في كأس النديم (دمية ميكانيكية). يرفع الآلة الكأس ويشرب بقايا الملك ويومئ برأسه عدة مرات. يحدث هذا في كل مرة يُسكب فيها النبيذ في الكأس. تنخفض يده اليسرى وتشير إلى مقدار ما شربه. يقول الجزري: ” فيقول صاحب المجلس لمن يريد أن يضحك منه من الظرفاء وممن لا يعملون بحال النديم يا فلان خذ هذا النديم اليك فانه شارب خمرة وكاتم سر فضعه على ركبتك واشرب واسقه فيأخذه من غير مخالفة ويضعه على ركبته ويشرب ويسقيه فما يتم شرب قدحين أو ثلاثة الا وقد بزل عليه جميع ما شربه من أول المجلس فتبتل أثوابه ويجري الشراب تحته بغتة”.

يبدو أن الصورة مأخوذة من مأدبة فخمة من «ألف ليلة وليلة»، إلا أنه قد رويت القصة في أحد كتب الهندسة…

كيف يعمل كأس النديم؟ 

سيتخذ الشرح التقني اللون الأزرق، كالمعتاد؛ لذلك يمكن لأي شخص غير مهتم بالسيفون او تخطي تلك الأجزاء. هذا رسم من الكتاب، وأضفت تعليقات للوضوح.

آلية النديم مع تعليقاتي، مخطوطة توب قابيي، ١٢٠٦

تتخذ الآلة ذاتية التشغيل شكل صبي يبلغ من العمر خمس سنوات (لا أعتقد أن الرسام قد قرأ الكتاب، حيث يبدو الشكل ملتحًا وقديمًا جدًا). يُسكب نبيذ الملك المتبق في الكأس، ويكاد يملأه، ثم يتدفق عبر ساعد النديم إلى خزان اليد. يُصبح الخزان أثقل، ثم يتجمع لدى الذراع، ويرتفع الكأس إلى شفاه النديم. رأسه، أيضًا على محور، والذي لا يظهر في الرسم، ثم يدفعه للخلف قليلاً بواسطة الكأس، مقلدًا الشرب. قام الجزري بتركيب سيفون في الخزان. صادفنا واحدة في المنشور حول حوض الطاووس وسحر الأوتوماتونات (فقط باللغة العبرية، وهي بصدد الترجمة خللا فترة وجيزة). آلية رفع السوائل عبارة عن أنبوب على شكل حرف U مقلوب، وهو الحافز لدفع السائل لأعلى، دون مضخة، إلا أنه يستند إلى قوانين الجاذبية:

السيفون

تشير لوحات مصر القديمة إلى استخدام السيفون في صناعة النبيذ في وقت مبكر من 1500 قبل الميلاد. هناك أدلة مادية على استخدام المهندسين اليونانيين لسيفون في بيرغامون في القرن الثالث قبل الميلاد.

النديم وثقافة البلاط في ديار بكر

تبدو الفجوة بين التاريخ والثقافة الإسلامية، كما أراها من الخارج (يهودي علماني، أعيش في تل أبيب) إلى الحياة الإسلامية كما هو موضح في كتاب الجزري كبيرة. فالإسلام المعاصر وثيق الالتزام بالشريعة، والتي تشبه إلى حد كبير طريقة الالتزام لدى العقيدة الأرثوذكسية اليهودية والتي تنأى عن حفلات السمر التي تصورها الكتابة الأدبية خلال العصور الوسطى، وشعر العصر الذهبي للخلافة العباسية في بغداد، ولكن أيضا الإمارة الصغيرة في ديار بكر. تتضح أهمية النديم كمفهوم من الإشارات العديدة للملوك وكاتب اختزال المحكمة والمؤرخين وحتى كاتب كتب الطبخ.

سأطرح أمامكم ثلاثة أمثلة فحسب تشملها المعلومات التي يذخر في هذه الكتب:

  1. كتاب الفهرست لابن النديم، كما كان يعمل كنديم في أحد الأيام (لاحظ الاسم!) في القرن العاشر، ببغداد. وهو يُعد أحد الفهارس لجميع الكتب التي كتبت باللغة العربية في عصره. قد يكون مصطلح ” الفهرست” مضللًا، حيث وصف المؤلف حياة الآلاف من المؤلفين، وسرد جميع عناوين كتبهم وتقييم مزاياهم. كما تناول الأديان وعادات عصره والإنجازات العلمية. وهي في واقعها موسوعة ثقافية رائعة. من المثير للاهتمام ملاحظة أن فصلًا مخصصًا لـ ” في أخبار الأدباء والندماء والمغنيين والصفادمة والصفاعنة وأسماء كتبهم.” مثال من الفهرست هو أبو العنبس الصيمري. كان قاضيًا رفيع المستوى وصديق مقرب من الخليفة في القرن التاسع في بغداد.

“من أهل الفكاهات والمراطزات. وكان مع ذلك أديبا عارفا بالنجوم، وله في ذلك كتاب [في الواقع، بقي اثنان من كتبه في علم الفلك] رأيت أفاضل المنجمين يمدحونه. وادخله المتوكل في جملة ندمائه، وخص به. وله بحضرته خبر مع البحتري مشهور. وعاش إلى أيام المعتمد ودخل في جمله ندمائه. وله يهجو طباخ المعتمد.”

تُنسَب إليه الكتب التالية:

  • كتاب الجوارش[هَضْم من اللغة الفارسية] والدرياقات
  • كتاب الرد على ميخائيل الصيدناني في الكيمياء
  • كتاب تفسير الرؤيا
  • كتاب نوادر القواد
  • كتاب فضل السرم على الفم
  • كتاب كنّي الدواب

2. كان ابن سيار من بغداد مؤلف كتاب الطبخ من القرن العاشر؛ وهو أقدم كتاب طهي عربي معروف. يحتوي على أكثر من 600 وصفة. الصفحات الأخيرة هي إرشادات لحفلات الشرب، خاصة في حضور الملك. هناك وصف مفصل للغاية لما هو متوقع من النديم. هذا مقتطف موجز من الكتاب بعنوان “ومن الأدب عند الشراب”:

” يَنبغي للنَّديم إذا جلس للشرب مع الملك أَنْ يجلس في المرْتبة لمعْروفة، لا يتجاوزها إلى ما هو أعلى منها، ولا يحطّ نَفْسه عنها، ولا يُكثر الاتَكاءَ بينَ يَدَيْ الملك. وليكنْ مُنْتَصِبَ الجُلوس… وليحذر التَّبَسُط، والتَّمَدُد والتَّمطَي، والتَّثاؤب…ولا الإكثار من النُّقل بَعد الشرب؛ فإنّ فاعلَ ذلك يُسمّى الطَّحَان.. ولا يشرب من الشراب بي لا يطيق، ويزول معه عقله، وليصب لنفسه ما يعلم أنه يقوم به “

  1. أبو الحسن بن علي المسعودي هو عالم ومؤرخ، جغرافي مسلم. وهو معروف بكتابه “مروج الذّهب ومعادن الجوهر” وهو سرد تاريخي باللغة العربية لبداية العالم بدءًا من آدم وحواء وصولاً إلى الخلافة العباسية. يصف من بين أمور أخرى حوارًا شعريًا بين كاتب الخليفة والنديم:

“وقد فاخر كاتب نديماً فقال الكاتب : أنا معونة وأنت مؤونة ، وأنا للجد وأنت للهزل ، وأنا للشدة وأنت للذة، وأنا للحرب وأنت للسلم،

فقال النديم: أنا للنعمة وأنت للنقمة، وأنا للحظوة وأنت للمهنة، وتقوم وأجلس، وتحتشم وأنا مؤنس، تدأب لحاجتي، وتشقى بما فيه سعادتي، وأنا شريك وأنت معين ، وأنا قرين وأنت تابع ، وإنما سميت نديماً للنَّدَم ِعلى مفارقتي .

 

השאר תגובה